ندوة الكواكبي بمناسبة اختيار حلب عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 1427-2006م حلب 25-27 تموز 2006
مقدمة قصة الناي معروفة في ديوان مولانا جلال الدين الرومي، المعروف بالمثنوي، هذه القصّة التي تتصدر الديوان تشكل عصارة فكر هذا العارف الكبير، وخلاصة مشروعه الاستنهاضي، وأرى ثمة مشتركات كثيرة بين هذا الفكر ومشروع الاستنهاض الذي تبناه الكواكبي. قد يعود هذا التشابه إلى وحدة الدائرة الحضارية في العالم الإسلامي، هذه الوحدة التي جعلت كثيراً من تياراتنا الفكرية والادبية والثقافية تنطق بلغة واحدة، وصيّر منها كما يقول بعضهم أواني مستطرقة. ولعلّ ذلك يعود أيضاً إلى مشتركات أخرى توحيها الينا مفردات مثل: تبريز، وحلب، والمولوية، واللغة العربية، واللغة الفارسية، واللغة التركية، والواقع المتخلف، واسترخاء إنسان العالم الإسلامي، وطبيعة روح الاستنهاض في المشروع الإسلامي.
وقفة تحليلية عند قصة الناي بعد الغزو المغولي للعالم الإسلامي أصيبت الأمة بحالة أشبه ما تكون بالوصف الذي أطلقه الكواكبي على الأمة بعد عصر الغزو الاستعماري الحديث وهو: الفتور العام(1) . وكلمة «الفتور العام» ذات دلالات كبيرة، فهي تعني ضعف روح الأمة وحركتها نحو التكامل بعبارة أخرى ضعف الروح الحضارية لدى الأمة. الفتور العام هو وراء كل تخلّف معنوي ومادّي بين البشر، ويصيب الأمة بعد أن تفقد أهم عنصر من عناصر حيويتها وهو «العزّة». «العزّة» أو «التيموس» بتعبير افلاطون هو وراء كل حركة التاريخ كما يقول فوكوياما(2) . وإذا أصيبت العزّة بانتكاسة فان حركتها التاريخية الحضارية تصاب بخمول وضمور. والعزّة في المنظومة الفكرية الإسلامية لها مكانتها الهامّة، والحفاظ عليها هو أهمّ ما أكدت عليها الشريعة الإسلامية. في القرآن والسنّة وآراء المجتهدين والفقهاء نصوص مستفيضة عن أهميتها، ولا مجال لاستعراض ذلك. من هنا فان هذه العزّة – إذا أصيبت بانتكاس – هي أهم ما يجب أن يسعى إلى استعادتها دعاة الاصلاح. جلال الدين الرومي في عمليته الاصلاحية يستهدف استنهاض الروح الانسانية في الموجود البشري، واستثارة الأشواق التكاملية فيه، مع استشعاره بعزّته. فهو يتحدث عن الناي الذي يشكو ويحكي عن آلام الفراق. فهذا الأنين الذي نسمعه من الناي هي أشواق لأصله الذي انتزع منه يقول:
بشنو از ني چون شكايت مي كند واز جدائيهــــا حكايت مي كند كزنيستــــان تامرا بُبريـــده اند در نفيــرم مــرد و زن ناليده اند أي: اسمع من الناي إذ يشكــو وعـــــــن فراقـــه إذ يحكـــي فما إن قطعوني عن مزرعة القصب حتى بدأت أئن ويئن معي الرجال والنساء فالموجود البشري يحمل أشواق العودة إلى أصله، وهو من الله، ففيه «نفحة روح ربّ العالمين» ولذلك فهو يحمل أشواق الاتجاه إلى الله.. أي الاتجاه نحو كل ما يتصف به الله من صفات الجلال والجمال نحو العلم والخلق والابداع والجمال والقوّة والعزّة والكرامة والرحمة.. وهذه حقيقة الموجود البشري، والتأكيد على هذه الحقيقة فيه استشعار لعزّة الإنسان، واستثارة لاشواقه نحو الكمال. الانين الذي يصدر من الناي هو شوق الكمال الحضاري، وهو جوهر الإنسان، وهو العشق في التعبير العرفاني. لكنّ هذا الاشتياق نحو الكمال بحاجة إلى إنسان متألم متحسس لابتعاده عن ركب الحضارة الانسانية، فالانسان الذي لا يحمل هذا الهم لا يفهم هذا الاشتياق. يقول مولانا في هذه القصيدة: سينه خواهم شرَحه شَرحه از فــراق تا بگويم شـــــرح دردِ اشتيـــــاق أي: أطلب صدراً يتمزّق من هذا الفراق لأبثّ له شـــرح آلام الاشتيـــــاق ثم ينحو باللائمة الشديدة على من لا يفهمون أسرار هذا الانين، أو أسرار هذا الشوق في الناي. يقول: آتشست اين بانك ناي ونيست باد هركــه اين آتش ندارد نيست باد أي: إن صوت الناي هذا هو نار وليس هواء والـــموت لمن لا يملك هـــــــذه النار وهذه النار هي نار العشق.. العشق نحو الكمال، وهذا العشق هو الذي يجعل الخمرة فاعلة في نفس الإنسان. يقول: آتــش عشقست كاندر نَي فتاد جوشش عشقست كاندر مَيْ فتاد إنها نار العشق التي وقعت في الناي إنها فورة العشق التي وقعت في الخمرة ويختتم قصة الناي بالتأكيد على ضرورة أن يبلغ الإنسان درجة من النضج لكي يفهم كلام الناضجين، أي إن الإنسان يجب أن يرتفع في مستواه الفكري والروحي لكي يستمع إلى نداء الاشواق التي تعتمل في نفسه يقول: در نيابد حال پخته هيچ خام پس سخن كوتاه بايد والسلام لا يعي حال الناضجَ أيُّ فجّ خام فلنقلّل الكلام ونقول الســـلام باختصار الفتور الذي يصيب الإنسان والمجموعة البشرية ناتج عن خمود أشواق التكامل فيه، وهذه الاشواق بحاجة إلى استثارة، ولابدّ قبل هذه الاستثارة من توعية الإنسان على واقعه المتخلف كي يفهم صوت هذه الاشواق.
الفتور العام في فكر الكواكبي يتحدث الكواكبي على لسان «المولى الرومي» وهو اسم له دلالة على عنوان بحثنا، عن سبب الفتور العام أو التخلف الحضاري بتعبيرنا، فيرى أنها فقدان «الحريّة». ولكن حين يتحدث عن الحرية بمفهومها العام تجد أنها العزّة بالذات. يقول: (3) . «وعندي أن البلية فقدُنا الحرية، وما أدرانا ما الحرية؟! هي ما حرمنا معناه حتى نسيناه، وحرم علينا لفظه حتى استوحشناه. وقد عرف الحرية من عرفها: (بأن يكون الإنسان مختاراً في قوله وفعله لا يعترضه مانع ظالم). ومن فروع الحرية تساوي الحقوق ومحاسبة الحكام باعتبار أنهم وكلاء، وعدم الرهبة في العدالة بأسرها حتى لا يخشى إنسان من ظالم أو غاصب أو غدار مغتال؛ ومنها الأمن على الدين والأرواح، والأمن على الشرف والأعراض، والأمن على العلم واستثماره، فالحرية هي روح الدين، وينسب إلى حسان بن ثابت الشاعر الصحابي رضي الله عنه قوله: وما الدين إلا أن تقام شرائع وتؤمن سبل بيننا وهضاب هذا، ولا شك أن الحرية أعزّ شيء على الإنسان بعد حياته، وإنّ بفقدانها تفقد الآمال، وتبطل الأعمال، وتموت النفوس، وتتعطّل الشرائع، وتختلُّ القوانين. وقد كان فينا راعي الخرفان حرًا لا يعرف للملك شنآنا يخاطب أمير المؤمنين بيا عمر، ويا عثمان، فصرنا ربما نقتل الطفل في حجر أمه ونلزمها السكوت فتسكت، ولا تجسر أن تزعج سمعنا ببكائها عليه. وكان الجندي الفرد يؤمّن جيش العدو فلا يخفر له عهد، فصرنا نمنع الجيش العظيم صلاة الجمعة والعيدين، ونستهين دينه لا لحاجة غير الفخفخة الباطلة. فلمثل هذه الحال لا غرو أن تسأم الأمة حياتها، فيستولي عليها الفتور، وقد كرّت القرون، وتوالت البطون، ونحن على ذلك عاكفون، فتأصل فينا فقدُ الآمال وتركُ الاعمال والبعدُ عن الجد والارتياحُ للكسل والهزل، والانغماسُ في اللهو تسيكنا لآلام أسر النفس، والإخلاد إلى الخمول والتسفل طلباً لراحة الفكر المضغوط عليه من كل جانب. إلى أن صرنا ننفر من كل الماديات والجديات حتى لا نطيق مطالعة الكتب النافعة ولا الإصغاء إلى النصيحة الواضحة، لأن ذلك يذكرنا بمفقودنا العزيز (انظر بدقة إلى عبارة: مفقودنا العزيز) فتتألم أروحنا، وتكاد تزهق إذا لم نلجأ إلى التناسي بالملهيات والخرافات المروّحات. وهكذا ضعف إحساسنا وماتت غيرتنا، وصرنا نغضب ونحقد على من يذكرنا بالواجبات التي تقتضيها الحياة الطيبة، لعجزنا عن القيام بها عجزا واقعياً لا طبيعياً».
وقفة قصيرة عند بداية هذا «الفتور» ذكرنا أن الركود الحضاري أو الفتور كما يسميه الكواكبي يبدأ منذ انتكاسة عزّة الإنسان في المجتمع، ويرى أن هذه الحالة فرضت عليه منذ أكثر من ألف عام: «إن مسألة تقهقر الاسلام بنت ألف عام أو أكثر»(4) ، ولكن مع ذلك فان أساس الدفع الحضاري للاسلام بقي متواصلاً رغم كل ما فرض عليه من عقبات: «وما حفظ عزّ هذا الدين المبين (لاحظ كلمة عزّ هذا الدين، والمقصود طبعا عزّ أهله) كل هذه القرون المتوالية إلاّ متانة الأساس». وهنا أقف بشكل عابر عند تعليق الاخ الدكتور محمد جمال الطحان المحقق لكتاب أم القرى على عبارة «الف عام أو اكثر». فقد قال: «أي منذ 316 هـ = 928م حيث تمكن غير العرب من حكم الدولة العبّاسية في أواخر عهدها. قلت أقف بشكل عابر لأن التاريخ لايهمنا إلا بمقدار ما نبني به مستقبلنا. وفي هذه الوقفة العابرة أذكر رأيا آخر تبناه مالك بن نبي وغيره وهو إن انحدار منحني العزّة بدأ منذ «وقعة صفين»(5) حين استولت الارستقراطية القرشية على الحكم و«عادت العصبية إلى الحكم الذي صار وراثيا قيصيرياً»(6) وقمعت إرادة الأمة بالسيف والقهر والتجويع والتخويف. والعصر العبّاسي في بدايته كان عصر انفتاح وتعامل بين الحضارة الإسلامية والحضارات الاخرى، لكنّ ظاهرة الوراثة في الحكم وما يستتبعها من استبداد تواصلت وهي التي أذاقت الحاكمين علقم سيطرة حاشيتهم من غير العرب عليهم وتحويلهم إلى لعبة يعبثون بها كيف يشاؤون.
علاقة «الفتور» بالاستبداد حين تذكر كلمة الاستبداد في يومنا هذا لا ينصرف الذهن إلاّ إلى الحاكم المستبد، بينما ذهب الكواكبي إلى معالجة الأمر من منظور حضاري، وهو أن التخلف الحضاري يفرز الاستبداد إفرازا ذاتياً. فالانسان حين يفقد عزّته الحقيقية يبحث عن عزّته السرابية، وبتعبير قصة الناي لمولانا حين لا يكون في الناي نارٌ، يعبث فيه الهواء، وبالتعبير القرآني حين لا يتجه الظمآن إلى الماء يتجه إلى السراب الذي «يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً». وهنا ينشأ الاستبداد، فالمستبد إنسان فَقَدَ مَثَلَه الاعلى الذي يجد فيه عزّته، فراح يبحث عن عزّته بطرق شتّى ومنها محاولته أن يفرض رأيه على من تحت سيطرته، ومنها التعصّب لرأي يتبنّاه ويرى عزّته في التشبث به. يقول الكواكبي: «إن كلّ فرد من أسراء الاستبداد مستبد في نفسه. ولو قَدَر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلّهم حتى وربَّه الذي خلقه تابعين لرأيه وأمره»(7) . وهذه فكرة هامّة توضّح علاقة الاستبداد بحالة التخلف الحضاري. فحالة التخلف هذه تفرز الاستبداد بجميع أنواعه.. السياسة تُصبها في هذه الحالة الاستبداد، والأفكار والعقائد تُمنى بحالة الاستبداد، والدين أيضا يُمنى بالاستبداد. وبالمناسبة فان الحديث عن الاستبداد الديني إلى جانب الاستبداد السياسي، واعتبار أن الاستبداد الديني أسوأ من الاستبداد السياسي كان له صدى في إيران، وعلى هذا المنوال دوّن آية الله ميرزا محمد حسن النائيني كتابه: «تنبيه الأمة وتنزيه الملة»(8). والمستبد السياسي هو أيضا مثل سائر المستبدين في دائرة الفكر والعقيدة والدين والاسرة والمهنة يبحث عن عزّته في التعالي على المجتمع وإذلاله. يقول الكواكبي: «إن المستبدين من السياسيين يبنون استبدادهم على أساس من هذا القبيل أيضا، لأنهم يسترهبون الناس بالتعالي الشخصي والتشامخ الحسي، ويذللونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال حتى يجعلونهم خاضعين لهم عاملين لأجلهم، كما خلقوا من جملة الانعام نصيبهم من الحياة ما يقتضيه حفظ النوع فقط»(9). * * * مما تقدم نستنتج أن مشروع الكواكبي في الاصلاح لا يتجه إلى معالجة الاستبداد السياسي كما هو الشائع، بل معالجة حالة الاستبداد الطبيعية التي يفرزها «الفتور» أو التخلف الحضاري، وهذا التخلف الحضاري لا يمكن معالجته الاّ باستنهاض الروح الانسانية في الموجود البشري واستثارة الاشواق التكاملية فيه مع استشعاره بعزّته، وهو مشروع مولانا جلال الدين الرومي كما يبينه بصورة أدبية رائعة في قصة الناي. 1 - أم القرى، الاجتماع الثاني (الداء أو الفتور) ، ص 51 ومابعدها، دراسة وتحقيق د. محمد جمال الطحان ، ط1، دمشق 2002م. 2 - انظر: نهاية التاريخ والانسان الاخير، فرانسيس فوكوياما، ترجمة د. فؤاد شاهين وآخرون، بيروت 1993, ص 27 ومابعدها. 3 - أم القرى، مصدر مذكور، ص 58 ومابعدها. 4 - ام القرى، مصدر مذكور، ص 43. 5 - شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبدالصبور شاهين، دار الفكر ، ط3، 1969، اثر الفكرة الدينية في تكوين الحضارة، ص 91 ومابعدها. 6 - فلسفة التاريخ عند مالك بن نبي، د. احمد مسعود، مقال في مجلة «ثقافتنا» المجلد 1 العدد 2. 7 - طبائع الاستبداد. 8 - انظر ، ص 64 من الكتاب (بالفارسية)، تحقيق سيد جواد ورعي، ط1، قم2003م. 9 - طبائع الاستبداد.